حافظ الملۃ وسفرہ التاریخي إلی بیت اللہ العتیق
ساجد علي المصباحي ، الجامعة الأشرفية ، مبارك فو
بسم الله الرحمٰن الرحيم
نحمده و نصلي و نسلم على رسوله الكريم
كل أمة تريد أن تفتح لنفسها أسهل الطرق و أدناها الى بلوغ قصارى جهدها، لا غنى لها أن تستوحى حياة عظمائها وتمعن فى طرق و مناهج سلكوها فاذا هى ما استوحت و حاولت أن تسيرعلى منهاج مبتكر، كانت حرية أن تصدمها صدمة تقطع عليها سيرها ، وتُعرقِل سبيلها،وقد تجرفها وتجتاح ما يعترضها من الجهود.
ونرى تاريخ الهند زاخرا بأمثال هؤلاء الكبار الذين نجد في سيرتهم هداية تنير لنا الطريق فى هذا العالم المضطرب، وذخرا نستعين به حين ندعى إلى المساهمة فى بناء العالم بناء جديدا
رجل عاش حياة صافية عن أطماع الحياة و أكدارها، حياة حافلة بالنشاط و العمل زاخرة بالمبادئ و المثل العليا، رجل كان رمز الاخلاص و التضحية ،و مثال الزهد و القناعة ، ونموذجا للأخلاق و الفضائل ، رجل اتفقت الألسنة على الثناء عليه و التنويه بأعماله ، و تواضعت شهادات المعاصرين على عبقريته و علو همته ، ترى هل ينتظم هذا الرجل في سلك العظماء ....؟
إنه أستاذ الجيل ، إنه منجب الأعلام ، إنه حافظ الملة والدين الشيخ مولانا عبد العزيز رحمه الله تعالى ،كان من أفذاذ الرجال ، يرمي إلى أهداف سامية وغايات عالية، من إعلاء كلمة الحق في جميع العالم ،ونفخِ روح الحياة الدينية في كافة المسلمين، وبثِّ الثقافة الإسلامية، وإنقاذ الناس من براثن الزيغ والطغيان ، وإرشادهم إلى الهداية والصواب . ولذٰلك قام بمآثر جليلة وأعمال حميدة لاينساها التاريخ الإسلامي الخالد. منها إقامةُ المعاهد العلمية ولاسيما الجامعة الأشرفية ، وتجهيزُ العساكر الإسلامية ،وتزويدُ معاشر الطلاب بمعان قيمة .
ولاريب أن كل ناحية من نواحي حياته المباركة تكفي لإثبات شخصيته النادرة ورفعته الباهرة ،واستقصاء هذه النواحي لاتتحمله هذه العجالة ، فأكتفي بذكر موقف من أروع المواقف التي مر بها الشيخ في حياته ، والتي تحكي لنا مثالا نادرا لشدة التمسك بالدين والاعتصام بالشريعة مهما كانت الظروف والنتائج.
فممالايخفى عليكم أن جميع المسلمين الذين يقصدون زيارة الحرمين الشريفين يضطرون إلى التصوير للحصول على إجازة السفر وتاشيرة الحج حسب ما نصت عليه اللوائح الدولية، وكان الشيخ يرى التصوير حراما بجميع أنواعه انطلاقا من قول النبي صلى الله عليه وسلم ’’إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ،يقال لهم: أحيوا ما خلقتم‘‘ ومن ثم تجنبه طيلة حياته، ولكنه اضطر إليه عند سفره للحج فأبى إلا أن يسافر دون صورة ،وألح فى إبائه، وظل على رأيه لم يرجع عنه قيد شبر حتى أذنت له الحكومة الهندية و السعودية بالسفر دون الصورة . فسافر حافظُ الملة والدين بدون الصورة من هٰذه البقعة الشريفة المعروفة بـــ ’’مبارك فور‘‘ من الولاية الشمالية في الهند إلى مهبط الوحي ومركز الإسلام ، وتشرّف بحج بيت الله العتيق وزيارة ضريح النبي الكريم سنة ۱۳۷۸من الهجرة النبوية، المصادفة سنة ۱۹۶۷من الميلاد ، بقيت الدينا تنظر هذا المشهد مندهشة ومتحيرة ، وأضحى الحاقدون يقلّبون أكفهم من الندامة والخيبة.
حنين نفسه للحج :
إن حافظ الملة والدين حينما كان يرى قوافل الحجاج وزائري الحرمين الشريفين يضطرب ويبكي ويكاد أن يبخع نفسه عليه، فلما كان يسأله أحد أتباعه عن امتناعه عن الحج يرد عليه قائلا: أيها المحب! يحن قلبي لأداء أركان الحج ، وتشتاق نفسي إلى زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولٰكن من الأسف كل الأسف أن اشترط التصوير على التاشيرة يحول بيني وبين تحقيق آمالي ؛ لأني لاأرى بجواز التصوير، ولابد منه للتاشيرة حسب القانون الدولي ،فإن أذن لي بالحج بدون الصورة بادرت إليه وأسرعت . وأتيقن بفضل الله تعالى وبكرم حبيبه الأعلى أني سوف أتشرف بالحج وزيارة الحرمين الشريفين بدون الصورة ، وإن يبد هذا مستحيلا في بادئ النظر ، لكن لاأستبعد تحققه من رحمة الله الوهاب وعناية رسوله المختار.
وعلى كل حال قد أثمرت لوعةُ قلبه وقوةُ إذعانه على قدرة الله ورسوله ، فحصل له الإذن بالحج -كما رجاه- دون أن يلتجأ إلى التصوير. والقصة أنه طلب من تابعه الخاص حسان الهند الشيخ ’’ بيكل الأتساهي ‘‘ أن يقدّم له طلبا للحج بدون الصورة إلى دائرة الجوازات. قال الشيخ الأتساهي : ما إن تلقيت أمره حتى قدّمت الطلب إلى رئيس المؤظفين للجوازات – آنذاك - السيد وراثت حسين القدوائي فرحّب به، وتولى رفعه إلى جميع دوائر الجوازات بنفسه وبذل وسعه للحصول على الموافقة من كل دائرة حتى وافقت عليه الحكومة الهندية والسعودية ، وهٰذه الأ منية لم تتحقق بهٰذا القدر من اليُسر والسهولة الذي ربما يتوهم من هذه السطور، بل لقي حافظُ الملة و أتباعُه كثيرا من العقبات التي تعترض سبيله، وتحول دون أمنيته هذه.
إن حافظ الملة ـــــ رحمه الله ـــــ كان قد سبق أنه أنفق ـــــ غير مرة ـــــ جهوده للحصول على التاشيرة بدون الصورة، لكنه لم ينجح في جهوده ولم يجد مبتغاه، وكان من حسن المصادفة أن سماحة الشيخ المحدث ضياء المصطفى ـــــ حفظه الله ـــــ زار ديار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل عام ، فأرسل معه ملتمَسه إلى جنابه صلى الله تعالى عليه وسلم ، وعرضه الشيخ المحدث بكل تضرع وإلحاح حتى أجابه النبي الكريم وانحلت عقدة الموانع والعراقيل ، وحصل له الإذن بالتاشيرة بدون الصورة من دولة الهند والمملكه العربية السعودية ، لكن حينما وقف الأعداء على هذا الأمرلم يدخروا وسعا في أن يفسد وا عليه هذا الأمر، وحاولوا جاهدين أن يُحبِطوا مسعاه، ويُخيّبوا آمالَه، و بذلوا فيه كل ما يملكون من الجهد والعناء.
وقد وقع مثل هٰذا الأمر في بلده ’’مبارك فور‘‘حيث كان أحد قضاة مبارك فور من حي ’’فوره صوفي ‘‘ يتحدث ذات مرة مع بعض أصحابه عن سفر حافظ الملة للحج بدون الصورة ، فقال القاضي المبارك فوري من الكبر والنخوة :’’ أرى كيف يذهب هو بدون الصورة ‘‘. وكان المولوي محمد حنيف الساكن ’’بكتره‘‘ من مبارك فور يسير خلفه ، فترامى إلى سمعه قوله فأبلغه حافظ الملة ـــــ رحمه الله ـــــ وقال: إن القاضي المذكورله صلة وثيقة بلجنة شئون الحج ، ومن أجل ذلك قال ’’ أرى كيف يذهب هو بدون الصورة ‘‘ . وهٰكذا كثير من الناس جَدّوا في إفشال سفر حجه بدون الصورة ، لكنهم لم يكتسبوا دون الإهانة والندامة ، ولم يجدوا إلا الخيبة والخذلان.
ولما قبلت حكومتا الهند والسعودية العربية جوازَه المخصوص بدون الصورة وأرسَلَتا إليه مستنداته بعث حافظ الملة طلبه إلى ’’مغل لين ‘‘ مع طلب أخيه العزيز المولوي عبد الغفور المؤقر ، فرفضه مغل لين لعدم المقاعد الفارغة، ثم حاول الشيخ بيكل الأتساهي في دهلي فأعطته دولة الهند مقعدَين من مقاعدها المخصوصة في ’’الباخرة المظفري ‘‘ فأرسل طلبه مرة أخرى إلى مغل لين بدون الصورة ، فردّه مغل لين وكتب عليه ’’ أرسِل الصورةَ يُقبل طلبك وتجد مقعدك المطلوب ، فضاق حافظ الملة وأتباعه بهٰذا الجواب واضطربوا ، فطَمْأنَه بيكل الأتساهي وقال: أذهب أنا بنفسي إلى ممبائي و أكلّم مغل لين في هذا الشأن كلاما فاصلا .
وصل الشيخ بيكل الأتساهي إلى ممبائي وقابل مغل لين وقال : لما قبلت دولة الهند طلبه بدون الصورة ، فما لك وبأي قانون تطلب الصورة ؟ ولِم رفضتَ الطلب ؟ لاتملك أنت إلا حجز مقاعد الباخرة، ولما أعطته دولة الهند من مقاعدها المخصوصة فليس لك أن ترد ؟ فبُهتَ مغل لين وأسلم جوازَه إلى الشيخ بيكل الأتساهي وهو أرسله من ممبائي إلى حافظ الملة ففرح هو و أتباعه غاية الفرح واغتبطوا ، واطمئنت قلوبُهم ولمعت عيونُهم .
الارتحال من مبارك فور :
حينما حان وقت الارتحال من مبارك فور ذهب أولا إلى الجامعة الأشرفية ونصح أساتذتها وطلابها قائلا: لا بد لكم أن تشتغلوا في التعليم والتعلم دائما، وتحفظوا واجباتكم كاملا، وتؤدوا فرائضكم لوجه الله تعالى خالصا ؛ لئلا يسع أحدا أن يشكوكم في مجال التدريس والتثقيف .
ويا نجوم الجامعة !عليكم أن تشتغلوا في طلب العلم وتلقيه وتحترموا الأساتذة وأعضاء الجامعة ، ولا تكاسلوا في امتثال أوامرهم ونواهيهم .
وياأساتذة الجامعة! ينبغي لكم أن تعتنوا بتهذيب عقول الطلبة وتثقيفهم ، وتحنوا عليهم. وفي الختام قال داعيا ربه لبقاء الجامعة الأشرفية ورقيها: يا إلٰه العالمين!احفظ هٰذا المعهد العلمي ، وارفعه إلى أوج الكمال، واجعله مناراً لهداية كافة الخلق .
ثم ارتحل هٰذا العبد الصالح من مبارك فور فازدحم حوله زحوف المودعين من مبارك فور ومن مناطق أخرى ازدحاما لم يوجد مثيلُه حتى الآن ، تبدو الشوارع والطرق كأنها تسيل من أمواج المودعين ،وكان الناس يسابقون إلى عناقه ومصافحته، واستمرّ هٰذا المنظر البهيج إلى أن وصل إلى خارج البلدة ، فخاطب الناس وقال:
أما بعد فيا أحبائي!إني ذاهب بفضل الله تعالى إلى بلد رسوله الأكرم، وقبلت حكومتا الهند والحجاز جوازسفري بدون الصورة ، ومن فضل ربي أنه أنقذني من المحظورات الشرعية، وأذن لي بالحج بدون الصورة، فله الحمد والمنة .
أحبابي! إنكم تعلمون أن أعظم غاياتي وهدف حياتي أن تكون الجامعة الأشرفية حصنا حصينا لأهل السنة والجماعة، وبذلت في سقيها خمسا وثلاثين سنة ، وأنتم ترون أن الجامعة لا تزال تصعد إلى الرقي وذروة الكمال بتضحياتكم الوافرة وخدماتكم البارزة حتى بلغت إلى درجة يضرب بها المَثل ، والآن أفوض هٰذه الجامعة إليكم ، وألتمس منكم أن تراقبوها لئلا تتعرض شعبة من شعبها للانحطاط والتدهور، بل ترتفع إلى عنان السماء يوما فيوما، وجزاكم الله تعالى خيرا. آمين .
انتهى الخطاب على هذه الكلمات الدعائية، و جعل الزحام يتقدم رويدا رويدا ، وتعالت الأصوات بالهُتاف في الفضاء، حتى وصل المودّعون إلى محطة ’’ ستھياؤں‘‘ وجاء القطار بعد هنيهة من الزمن فركب فيه حافظ الملة بصعوبة جدا، ولم ينقطع منظر المصافحة البهيج حتى غادر القطار مكانه وجرى سريعا فائقا، فرجع الناس إلى مناطقهم ومنازلهم.
اتجه حافظ الملة إلى بيته ’’ بھوج فور ‘‘ من مديرية مرادآباد، وظل يُقدَّم إليه التَّرحابُ من المسلمين على كل محطة ، وتعلو الأصوات بالهُتاف، وتُظهِر أمواجُ المحبين وسيل المعتقدين شخصيته الرفيعة ومرتبته العالية .
مكث حافظ الملة في البيت ثلاثة أيام فحسب، ثم سافر من هنا إلى ممبائي ، وكان معه أخوه العزيز المولوي عبد الغفور والشيخ بيكل الأتساهي والحافظ ممتاز واصف والحافظ عبدالرشيد وغيرهم ، إنهم وصلوا إلى عروس البلاد ممبائي قبل مغادرة الباخرة بخمسة أيام، وهناك أيضا أفاض المسلمون أزهار المحبة ويواقيت المودّة، ورحّبوا به ترحيبا حارا، والتمس كل منهم أن يقيم في بيته حتى موعد السفر ، لكنه آثر بيت الأخ سعيد أحمد والأخ عبد المجيد للإقامة لما سلف من الوعد من الشيخ بيكل الأتساهي.
مكيدة الأعداء في ممبائي :
ذهب الشيخ بيكل الأتساهي بجواز حافظ الملة إلى سفيرالمملكة السعودية العربية ليحصل على التاشيرة ، فلما رأى السفير جوازه بدون الصورة قال: ائتني غداً، أعطك التاشيرة، ولما ذهب في اليوم التالي قال: تعال بعد يوم ، هكذا ظل يُسوّف إعطاء التاشيرة، ويماطل فيه، حتى لم يبق لمغادرة الباخرة إلا عدة ساعات فرفض أن يعطي التاشيرة بدون الصورة، وقال في ملأ من الناس: لا أعطي التاشيرة بدون الصورة حتى يأذن لي رئيس السفراء [وهو كان يقيم في دهلي ، وهٰذا كان نائبه في ممبائي ] فرجع الشيخ الأتساهي إلى حافظ الملة ندمان وحيران وأخبره بكل ما دار بينه وبين النائب ، فتضايق حافظ الملة ، واحتار في الأمر ماذا يفعل؟ لأن موعد الرحلة لم يبق منه إلا أربع ساعات ، ولم تكن بعدها باخرة أخرى يسافر فيها فيئس الأتباع والمودعون كلهم ، لٰكن لم يستطع أحد أن يشير عليه بالتقاط الصورة ، إلا الحاج حفيظ الله الموقر الذي كان جاء من كولكاته إلى ممبائي لمقابلته فحسب ، قال بلهجة خائفة: أيھا الشيخ! ينبغي الآن أن تأ خذ الصورة ؛ لأن التاشيرة لايعطيها السفيرُ بدونها، وهي ضرورة شرعية تبيح المحظور .فلم يرد عليه الشيخ وأخذ يتضرع إلى ربه خفية في غرفة مغلقة بعد أن أمر بيكل الأتساهي أن يذهب إلى السفير مرة أخرى ، وجعل ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يقول :
يارسول الله انظر حالنا |
|
يانبي الله ! اسمع قالنا |
كذلك ظل يتضرع إلى جناب الله تعالى ويستغيث برسوله الأعلى، حتى انفرج همُّه وانقطع حزنه وجاء الشيخ الأتساهي بتاشيرته في عدة دقائق.
وهو أنه لما ذهب إلى السفير مرة أخرى امتثالا لأمر حافظ الملة ـــــ وإن كان لا يجترئ أن يذهب إليه ثانيا بعد رفضه ـــــ اتفق أن رئيس لجنة الجوازات السيد مان سنگھ ـــــ وهو كان من أحباء بيكل الأتساهي ـــــ حضر في الوقت نفسه فإذ رآه مان سنگھ سئله عن أحواله فعرض عليه بيكل قضيته فطَمْأنَه مان سنگھ وقال للسفير: لما قبلت حكومتا الهند والسعودية العربية جوازه بدون الصورة ليس لك إلا أن تمنحه تاشيرته ، فأعاد السفيرُ سابق رده، فتكلم رئيسُ لجنة الجوازات (مان سنگھ ) مع رئيس السفراء بدلهي عبر التيليفون ،وقال: إن الحكومةالهندية أذنت السفر لرئيس الجامعة الأشرفية مبارك فور بدون الصورة ومستنداته جاهزة تماما، لكن نائبك يأبى أن يعطي التاشيرة بدون إذنك ، فأمر رئيس السفراء نائبه بمنح التاشيرة، ورغم ذلك ماطل نائبه أولا وحاول إقناع رئيسه بالرد حتى اضطر في النهاية إلى منح التأشيرة .
واعلموا أن هذه المماطلة من السفير كانت وراءها مكيدات الحاقدين التي حاكوها لإفساد هذا الأمر ولهذا لم يرفض السفير أول يوم، وإنما رفضه في وقت لم تبق فيه إلاباخرة ليضطرحافظ الملة إلى التصوير أو تأجيل السفر إلى السنة القادمة، ولكن خابت أمانيهم الفاسدة وباءت مكيداتهم بالفشل الذريع، فللّٰه الحمد والثناء، والصلاة على حبيبه المصطفى.
الارتحال من ممبائي :
ارتحل حافظ الملة من المنزل ـــــ بعد أن حصل على التاشيرة بدون الصورة ـــــ فرحا مسرورا في زحام المودعين والأحباء في الساعة الرابعة مساء واستمر الهُتاف يعلو في الفضاء وركب على الباخرة بعد أن تم تفتيش الجواز والتاشيرة ، وصلى العصر في نحو الساعة الخامسة والنصف، والمودعون كانوا يرمون إلى الباخرة نظرات الشوق والتوديع قائلين في نفوسهم: في حفظ الله وأمانه أيها الشيخ. وحافظ الملة كان يبادلهم النظر ويلوح لهم بيده من سطح الباخرة فما كان إلا هنيهة من الزمن حتى غادرت الباخرة الميناء وانقطع حديث الأنظار بين الأحباء ، فاستقر الشيخ في مقعده، وصلى المغرب في جماعته، ثم تعشى وصلى العشاء مع الجماعة في غرفته، ثم جاء أمير الحج مع صديقين وقال له: ينبغي أن تكون لنا جماعة واحدة للصلاة ، ونُفوّض إليك منصب الإمامة، فعليك أن تصلي بالناس من الفجر، فقبله حافظ الملة ومازال يصلي بالناس طوال السفر .
الإجابة عن المسائل الشرعيه في الباخرة:
جاء أشراف حيدرآباد إلى حضرة حافظ الملة في الثامن من شهر مارس في الساعة الثالثة والنصف وسألوه عن بعض المسائل الشرعية والتمسوا منه أن يشرحها بالدلائل العقلية، فالحمد لله على أنه شرح لهم ما أرادوا،وأقنعهم إقناعا اطمأنوا إليه كل الاطمئنان فأبدوا فرحهم وسعادنَهم بلقياه.
أورد أحد منهم على السترة في الصلاة ، وقال: إن السترة لا يعقل فائدتها فيها ؛ لأن المصلي يرى المارين أمامه كما يراهم بدونها ، فالسترة لا فائدة لها في الصلوٰة .
فأجاب عنها حافظ الملة قائلا: إن السترة للمصلي حد لموضع صلاته ، فلما خرسم الحد بالسترة امتاز موضع صلاته عن غيره ، فإن وقع نظر المصلي على من يمرّ خارج السترة فله حكم آخر ، مثلا نظر أحد امرأة أجنبية، فإن تعمد النظر إليها فهو حرام، وإن وقع النظر عليها سهوا فلا بأس فيه، كذٰلك رسم المصلي له حدا فكأنه لا يريد أن ينظر المارين ، لكن إن وقع النظر عليهم سهوا فلا حرج فيه، ففرح السائل بهذا الجواب ورجع.
و هٰكذا وجّه إليه كثير من الأسئلة والاستفسارات ـــــ على اختلاف أنواعها ـــــ فزوّدهم بإجابات تشفي غليلهم وتقنع عقولهم حتى قالوا: من بواعث الغبطة والابتهاج لنا أن الله قد يَسّر لنا أن نسأل عن كل ما نحتاج إليه من المسائل الشرعية ونظفر بإجابات مطمئنة.
وانعقدت في الباخرة حفلة في الثاني عشر من شهر مارس بعد صلاة العصر بَيّن فيها حافظ الملة أحكام الإحرام وكشف الغطاء عن وجه فوائده وأهميته بالبراهين والدلائل في أسلوب سهل ولسان عذب ، فطفقت تلمع عيونُهم بضياء الفرح وانغمس المستمعون في بحر البهجة والطرب.
وفي الختام ضجت الباخرة بالصلاة والسلام على النبي صلي الله تعالى عليه وسلم ، واستمرت الصلاة والسلام على النبي بعد كل احتفال إلى أن دخلوا مكة المكرمة.
و أُعلِن في الباخرة في الخامس عشر من شهر مارس في الساعة الثالثة أن الباخرة وصلت إلى ميقات الهند ’’ يلملم ‘‘ فلبس الحجاج ملابس الإحرام وتوجهوا كاملا إلى الله تعالى ورسوله الأعلى .
دخول مكة المكرمة:
وصلت الباخرة إلى ميناء جدة ۱۶؍ من شهر مارس وقت صلوٰة العصر ونزل الشيخ حافظ الملة من الباخرة بعد صلوٰ ة المغرب وذهب من السيارة إلى جُمرك ، تم بها تفتيش البضائع، وبينما كان في ذٰلك إذ أتاه الشيخ بيكل الأتساهي والمولوي محمد حنيف المبارك فوري والمعلم سيد أحمد الموقر، ليأخذوه إلى المنزل ، فأخذه المعلم المؤقر إلى دائرته بالسيارة وصلى الشيخ هناك صلاة العشاء، ثم ذهب به المعلم إلى مكة المكرمة بنفس السيارة، وصلى الشيخ هناك صلاة الصبح بالناس، ثم أدّى أركان العمرة في زحام الحجاج ، وأقام في بيت المعلم الموقر ، وما زال يحضره العلماء والأحباء لزيارته والتحدث إليه مادام مقيما هناك، وحضر الحرم الشريف لطواف القدوم في ۱۸؍ من شهر مارس في الساعة التاسعة غدوة وهو يفيض بسيل الطوافين الذين يمرحون ويهرولون كأنهم أبطال الميدان ، طاف حافظ الملة بينهم ، ثم ذهب للسعي إلى المسعى ، وهناك أيضا تسيل زحام الحجاج كأمواج المياه، ورجع إلى منزله بعد أن فرغ من الطواف والسعي وقضى فيهما أربع ساعات.
وانطلق إلى منى في ۱۹؍من مارس صباحا، ووصل إليها قبيل الظهر ، وصلى الظهر بعد أن تغدّى ، وبعد العشاء اجتمع الأحباء والأقرباء من أهل السنة والجماعة ، وأنشد فيه حسّان الهند بيكل الأتساهي مديحا نبوياوخطب الشيخ محمد حنيف في أركان الحج بأسلوب سهل ، ثم سأل المولوي سالم المؤقر عن المسائل المتعلقة بالحج ، ولا سيما عن الصلاة في عرفات ، فأجاب عنها حافظ الملة جوابا بينا وزينه بالأدلة والبراهين . من أراد تفصيله فليرجع إلى العدد الخاص الذي أصدرته المجلة الأشرفية المسماة بـــ’’ حافظ ملت نمبر‘‘ ، ثم انتهى المجلس المبارك بالصلاة والسلام على خير الأنام صلى الله تعالى عليه وسلم .
وذهب إلى عرفات في العشرين من شهر مارس بعد صلاة الفجر بالسيارة ، واشتغل هناك بذكر الرحمٰن وتلاوة القرآن والصلاة على خير الأنام صلى الله عليه وسلم ، وصلى بالناس الظهر ، ولقّنهم دعاء عرفات مولانا إسمٰعيل الجاني بعد العصر ،وارتحلو ا بعد غروب الشمس إلى المزدلفة ، و صلوا هناك المغرب والعشاء مع الجماعة، واشتغلوا بذكر الله تبارك وتعالى ، ثم ارتحلوا إلى منى بعد صلاة الفجر ، ومنها لرمي الجمار ، وفرغ حافظ الملة منه في الساعة العاشرة صباحا، وبعد الظهر ذهب إلى المنحر واشترى هناك شاة وذبحها بيديه.
وبينما كان في بكة جاء إليه عالم جليل وقال: إني بحثت عن هٰذ الحديث في كثير من الكتب، لكن ما وجدته، فأجاب حافظ الملة لساعته: اكتب اسم الكتاب الذي فيه هٰذا الحديث ’’ مطالع المسرات‘‘ فيه ’’أرأيت صلاة المصلين عليك ممن غاب عنك أو ياتي بعدك ، ما حالهما عندك ، فقال : أسمع صلاة أهل محبتي وأعرفهم وتعرض علي صلاة غيرهم عرضا‘‘.
ولا يخفى عليكم أن الشيخ حافظ الملة قد سأله كثير من الناس عن المسائل الشرعية وأقنعهم الشيخ بإجابات تستريح إليه النفوس وتطمئن .
ولما حضر المدينة المنورة ذهب إلى باب جبرئيل من المسجد البنوي الشريف وأخذ غبارا مباركا من هنا وكحل به عيونه، ولم لا؟ وهو الذي كان يكن بين جوانحه حبا مضطرما لهذه الأرض ولهوائها وترابها، وهو الذي أراق الدموع الغزار وسكب العبرات المنهمرة شوقا إليها وإلى لقياها، وها هو في هذه الأرض يمس ترابها ويداعب نسيمها. أتحققت الأحلام أم مازال في المنام؟ رباه! إن كان هذا حلما فمتّعه به وأدمه فيه، لا ‘إنها يقظة، إنها حقيقة، لم يخنه حظه، ولم تخذله مقاديره، شوق جارف يضطره أن يلثم هذا التراب بعينيه ، وقانون العشق يأبى عليه أن يلوثه بالنعال فخلع النعال،وجعل يجوب المدينة وطرقاتها حافيا، ويقدم إليه أسمى تحيات الحب والاحترام، ولم يلبس النعل مدة إقامته فيها، ولم يزل يدعو الله تبارك وتعالى ورسوله الأعلى لارتقاء الجامعة الأشرفية وازدهارها، ومن ثمرة دعائه المستجاب أن الجامعة تقطع مسيرتها إلى القمة والرفعة ويُخرج الناس من الظلمات إلى النور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ساجد علي المصباحي ــــــــ الجامعة الأشرفية ، مبارك فور
۱۴؍من شهر جُمادى الأولى ۱۴۳۶ھ/ ۶؍ من شهر مارس ۲۰۱۵م